الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويقال: فلان إذا قدح أورى، وإذا منح أورى، واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار، وفي غيره مجاز، ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل.{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح، وكانوا يغيرون صباحًا لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئًا، وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة، أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد.وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل، قالوا: المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسنة أن لا تغير حتى تصبح، ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع، يقال: أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول: أشرق ثبير كيما نغير، أي نسرع في الإفاضة.{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} ففيه مسائل:المسألة الأولى:في النقع قولان:أحدهما: أنا هو الغبار وقيل: إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع، فالغبار يسمى نقعًا لارتفاعه، وقيل: هو من النقع في الماء، فكأن صاحب الغبار غاص فيه، كما يغوص الرجل في الماء.والثاني: النقع الصباح من قوله عليه الصلاة والسلام: «مالم يكن نقع ولا لقلقة» أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح، وارتفعت أصواتهن، ويقال: ثار الغبار والدخان، أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه، وأثرن الغبار أي هيجنه، والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه.المسألة الثانية:الضمير في قوله: {به} إلى ماذا يعود؟ فيه وجوه:أحدها: وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه، والموضع الذي تقع فيه الإغارة، لأن في قوله: {فالمغيرات صُبْحًا} دليلًا على أن الإغارة لابد لها من وضع، وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1].وثانيها: إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة، أي فأثرن في ذلك الوقت نقعًا.وثالثها: وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو، أي فأثرن بالعدو نقعًا، وقد تقدم ذكر العدو في قوله: {والعاديات}.المسألة الثالثة:فإن قيل: على أي شيء عطف قوله: {فَأَثَرْنَ}.قلنا: على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، والتقدير واللائي عدون فأورين، وأغرن فأثرن.المسألة الرابعة:قرأ أبو حيوة: {فَأَثَرْنَ} بالتشديد بمعنى فأظهرن به غبارًا، لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن وقلب الواو همزة.{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} ففيه مسألتان:المسألة الأولى:قال الليث: وسطت النهر والمفازة أسطها وسطًا وسطة، أي صرت في وسطها، وكذلك وسطتها وتوسطتها، ونحو هذا، قال الفراء: والضمير في قوله: {بِهِ} إلى ماذا يرجع؟ فيه وجوه:أحدها: قال مقاتل: أي بالعدو، وذلك أن العاديات تدل على العدو، فجازت الكناية عنه، وقوله: {جَمْعًا} يعني جمع العدو، والمعنى صرن بعدوهن وسط جمع العدو، ومن حمل الآيات على الإبل، قال: يعني جمع منى.وثانيها: أن الضمير عائد إلى النقع أي: وسطن بالنقع الجمع.وثالثها: المراد أن العاديات وسطن ملبسًا بالنقع جمعًا من جموع الأعداء.المسألة الثانية:قرئ: {فَوَسَطْنَ} بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد كقوله: {وَأُتُواْ بِهِ} [البقرة: 25] وهي مبالغة في وسطن، واعلم أن الناس أكثروا في صفة الفرس، وهذا القدر الذي ذكره الله أحسن، وقال عليه الصلاة والسلام: «الخيل معقود بنواصيها الخير»، وقال أيضًا: «ظهرها حرز وبطنها كنز» واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به، ذكر المقسم عليه وهو أمور ثلاثة:أحدها: قوله: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}قال الواحدي: أصل الكنود منع الحق والخير والكنود الذي يمنع ما عليه، والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئًا ثم للمفسرين عبارات، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة: الكنود هو الكفور قالوا: ومنه سمي الرجل المشهور كندة لأنه كند أباه ففارقه، وعن الكلبي الكنود بلسان كندة العاصي وبلسان بني مالك البخيل، وبلسان مضر وربيعة الكفور، وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: الكنود هو الكفور الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده، وقال الحسن: الكنود اللوام لربه يعد المحن والمصائب، وينسى النعم والراحات، وهو كقوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَيَقول رَبّى أَهَانَنِ} [الفجر: 16].واعلم أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفرًا أو فسقًا، وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس، فلابد من صرفه إلى كافر معين، أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقيه من ذلك، والأول قول الأكثرين قالوا: لأن ابن عباس قال: إنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، وأيضًا فقوله: {أَفَلاَ يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا في القبور} [العاديات: 9] لا يليق إلا بالكافر، لأن ذلك كالدلالة على أنه منكر لذلك الأمر.الثاني: من الأمور التي أقسم الله عليها قوله: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} وفيه قولان:أحدهما: أن الإنسان على ذلك أي على كنوده لشهيد يشهد على نفسه بذلك، أما لأنه أمر ظاهر لا يمكنه أن يجحده، أو لأنه يشهد على نفسه بذلك في الآخرة ويعترف بذنوبه القول.الثاني: المراد وإن الله على ذلك لشهيد قالوا: وهذا أولى لأن الضمير عائد إلى أقرب المذكورات والأقرب هاهنا هو لفظ الرب تعالى ويكون ذلك كالوعيد والزجر له عين المعاصي من حيث إنه يحصى عليه أعماله، وأما الناصرون للقول الأول فقالوا: إن قوله بعد ذلك: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} الضمير فيه عائد إلى الإنسان، فيجب أن يكون الضمير في الآية التي قبله عائدًا إلى الإنسان ليكون النظم أحسن.الأمر الثالث: مما أقسم الله عليه قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} الخير المال من قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعًا} [المعارج: 21] وهذا لأن الناس يعدون المال فيما بينهم خيرًا كما أنه تعالى سمى ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب سوءًا في قوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} [آل عمران: 174] والشديد البخيل الممسك، يقال: فلان شديدة ومتشدد، قال طرفة: ثم في التفسير وجوه:أحدها: أنه لأجل حب المال لبخيل ممسك.وثانيها: أن يكون المراد من الشديدة القرى، ويكون المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف، تقول: هو شديد لهذا الأمر وقوي له، وإذا كان مطيقًا له ضابطًا.وثالثها: أراد إنه لحب الخيرات غير هني منبسط ولكنه شديد منقبض.ورابعها: قال الفراء: يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال، ويحب كونه محبًا له، إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني، كما قال: {اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [ابراهيم: 18] أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية وخامسها: قال قطرب: أي إنه شديد حب الخير، كقولك إنه لزيد ضروب أي أنه ضروب زيد. اهـ.
|